الخميس، 23 مايو 2013

من العجب أن بعض الناس اجترءوا على التاريخ فزيفوه وقوَّلوه ما لم يقل، واجترءوا على النصوص فحرفوها عن موضعها، محاولين بهذا وذاك أن يشوهوا التسامح الإسلامي الذي لم تعرف البشرية له نظيرًا في معاملة المخالفين في العقيدة والفكرة، لا في القديم ولا في الحديث.
لهذا رأيت أن أقدم هذا البحث لطلاب الحقيقة، من مسلمين وغير مسلمين، وهو بحث أساسه العلم والفكر، ومحوره الفقه والتاريخ، وهدفه البناء لا الهدم، والتوحيد لا التفريق.

وأساس هذه العلاقة مع غير المسلمين قوله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) (الممتحنة:8-9 )
فالبر والقسط مطلوبان من المسلم للناس جميعًا، ولو كانوا كفارًا بدينه، ما لم يقفوا في وجهه ويحاربوا دعاته، ويضطهدوا أهله.
ولأهل الكتاب من بين غير المسلمين منزلة خاصة في المعاملة والتشريع . والمراد بأهل الكتاب: من قام دينهم في الأصل على كتاب سماوي، وإن حُرِّفَ وبُدِّلَ بعدُ، كاليهود والنصارى الذين قام دينهم على التوراة والإنجيل.
فالقرآن ينهى عن مجادلتهم في دينهم إلا بالحسنى، حتى لا يُوغِر المِراءُ الصدورَ، ويوقد الجدل والَّلدَدُ نار العصبية والبغضاء في القلوب، قال تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، وقولوا آمنا بالذي أُنزِل إلينا وأُنزِل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون) (العنكبوت: 46)
ويبيح الإسلام مؤاكلة أهل الكتاب، والأكل من ذبائحهم، كما أباح مصاهرتهم والتزوج من نسائهم المحصنات العفيفات، مع ما قرره القرآن من قيام الحياة الزوجية على المودة والرحمة في قوله تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة) (الروم: 21).، وهذا في الواقع تسامح كبير من الإسلام، حيث أباح للمسلم أن تكون ربة بيته، وشريكة حياته وأم أولاده غير مسلمة، وأن يكون أخوال أولاده وخالاتهم من غير المسلمين.
قال تعالى: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم، والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان) (المائدة: 5)
وهذا الحكم في أهل الكتاب وإن كانوا في غير دار الإسلام، أما المواطنون المقيمون في دار الإسلام فلهم منزلة ومعاملة خاصة، وهؤلاء هم "أهل الذمة" . فما حقيقتهم؟


جرى العرف الإسلامي على تسمية المواطنين من غير المسلمين في المجتمع الإسلامي باسم "أهل الذمة" أو "الذميين".
و"الذمة" كلمة معناها العهد والضمان والأمان، وإنما سموا بذلك؛ لأن لهم عهد الله وعهد الرسول، وعهد جماعة المسلمين: أن يعيشوا في حماية الإسلام، وفي كنف المجتمع الإسلامي آمنين مطمئنين، فهم في أمان المسلمين وضمانهم، بناء على "عقد الذمة" بينهم وبين أهل الإسلام . فهذه الذمة تعطي أهلها "من غير المسلمين" ما يشبه في عصرنا "الجنسية" السياسية التي تعطيها الدولة لرعاياها، فيكتسبون بذلك حقوق المواطنين ويلتزمون بواجباتهم.


حق الحماية
فأول هذه الحقوق هو حق تمتعهم بحماية الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي . وهذه الحماية تشمل حمايتهم من كل عدوان خارجي، ومن كل ظلم داخلي، حتى ينعموا بالأمان والاستقرار

أ ) الحماية من الاعتداء الخارجي
أما الحماية من الاعتداء الخارجي، فيجب لهم ما يجب للمسلمين، وعلى الإمام أو ولي الأمر في المسلمين، بما له من سُلطة شرعية، وما لديه من قوة عسكرية، أن يوفر لهم هذه الحماية، قال في "مطالب أولي النهى" ـ من كتب الحنابلة ـ : "يجب على الإمام حفظ أهل الذمة ومنع مَن يؤذيهم، وفك أسرهم، ودفع مَن قصدهم بأذى إن لم يكونوا بدار حرب، بل كانوا بدارنا، ولو كانوا منفردين ببلد".

ومن المواقف التطبيقية لهذا المبدأ الإسلامي، موقف شيخ الإسلام ابن تيمية، حينما تغلب التتار على الشام، وذهب الشيخ ليكلم "قطلوشاه" في إطلاق الأسرى، فسمح القائد التتري للشيخ بإطلاق أسرى المسلمين، وأبى أن يسمح له بإطلاق أهل الذمة، فما كان من شيخ الإسلام إلا أن قال: لا نرضى إلا بافتكاك جميع الأسارى من اليهود والنصارى، فهم أهل ذمتنا، ولا ندع أسيراً، لا من أهل الذمة، ولا من أهل الملة، فلما رأى إصراره وتشدده أطلقهم له.

ب) الحماية من الظلم الداخلي
وأما الحماية من الظلم الداخلي، فهو أمر يوجبه الإسلام ويشدد في وجوبه، ويحذر المسلمين أن يمدوا أيديهم أو ألسنتهم إلى أهل الذمة بأذى أو عدوان، فالله تعالى لا يحب الظالمين ولا يهديهم، بل يعاجلهم بعذابه في الدنيا، أو يؤخر لهم العقاب مضاعفاً في الآخرة.
وقد تكاثرت الآيات والأحاديث الواردة في تحريم الظلم وتقبيحه، وبيان آثاره الوخيمة في الآخرة والأولى، وجاءت أحاديث خاصة تحذر من ظلم غير المسلمين من أهل العهد والذمة.
يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: " من ظلم معاهدًا أو انتقصه حقًا أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة" .(رواه أبو داود والبيهقي . انظر: السنن الكبرى ج ـ 5 ص 205)
ويروى عنه: "من آذى ذِمِّياً فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة" .(رواه الخطيب بإسناد حسن).
وعنه أيضًا: "من آذى ذميًا فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله" .(رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن).
وفي عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل نجران أنه: "لا يؤخذ منهم رجل بظلمِ آخر" .(رواه أبو يوسف في الخراج ص 72 - 73)
ولهذا كله اشتدت عناية المسلمين منذ عهد الخلفاء الراشدين، بدفع الظلم عن أهل الذمة، وكف الأذى عنهم، والتحقيق في كل شكوى تأتي من قِبَلِهم.
كان عمر رضي الله عنه يسأل الوافدين عليه من الأقاليم عن حال أهل الذمة، خشية أن يكون أحد من المسلمين قد أفضى إليهم بأذى، فيقولون له: " ما نعلم إلا وفاءً" (تاريخ الطبري ج ـ 4 ص 218) أي بمقتضى العهد والعقد الذي بينهم وبين المسلمين، وهذا يقتضي أن كلاً من الطرفين وفَّى بما عليه.
وعليٌّ بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: "إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا" (المغني ج ـ 8 ص 445، البدائع ج ـ 7 ص 111 نقلاً عن أحكام الذميين والمستأمنين ص 89)
وفقهاء المسلمين من جميع المذاهب الاجتهادية صرَّحوا وأكدوا بأن على المسلمين دفع الظلم عن أهل الذمة والمحافظة عليهم؛ لأن المسلمين حين أعطوهم الذمة قد التزموا دفع الظلم عنهم، وهم صاروا به من أهل دار الإسلام، بل صرَّح بعضهم بأن ظلم الذمي أشد من ظلم المسلم إثمًا (ذكر ذلك ابن عابدين في حاشيته، وهو مبني على أن الذمي في دار الإسلام أضعف شوكة عادة، وظلم القوي للضعيف أعظم في الإثم(.


حماية الأموال
ومثل حماية الأنفس والأبدان حماية الأموال، هذا مما اتفق عليه المسلمون في جميع المذاهب، وفي جميع الأقطار، ومختلف العصور.
روى أبو يوسف في "الخراج" ما جاء في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل نجران: "ولنجران وحاشيتها جوار الله، وذمة محمد النبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أموالهم وملتهم وبِيَعهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير... ". (الخراج ص 72).
وفي عهد عمر إلى أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما أن: "امنع المسلمين من ظلمهم والإضرار بهم، وأكل أموالهم إلا بحلها". وقد مرَّ بنا قول علي - رضي الله عنه - "إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا، وأموالهم كأموالنا" وعلى هذا استقر عمل المسلمين طوال العصور.



التأمين عند العجز والشيخوخة والفقر
وأكثر من ذلك أن الإسلام ضمن لغير المسلمين في ظل دولته، كفالة المعيشة الملائمة لهم ولمن يعولونه، لأنهم رعية للدولة المسلمة وهي مسئولة عن كل رعاياها، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كلكم راع وكل راع مسئول عن رعيته" . (متفق عليه من حديث ابن عمر(
وهذا ما مضت به سُنَّة الراشدين ومَن بعدهم.
ففي عقد الذمة الذي كتبه خالد بن الوليد لأهل الحيرة بالعراق، وكانوا من النصارى: "وجعلت لهم، أيما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنيًّا فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طرحت جزيته وعِيل من بيت مال المسلمين هو وعياله" . .(رواه أبو يوسف في "الخراج" ص 144) وكان هذا في عهد أبي بكر الصِّدِّيق، وبحضرة عدد كبير من الصحابة، وقد كتب خالد به إلى الصِّدِّيق ولم ينكر عليه أحد، ومثل هذا يُعَد إجماعًا.
ورأى عمر بن الخطاب شيخًا يهوديًا يسأل الناس، فسأله عن ذلك، فعرف أن الشيخوخة والحاجة ألجأتاه إلى ذلك، فأخذه وذهب به إلى خازن بيت مال المسلمين، وأمره أن يفرض له ولأمثاله من بيت المال ما يكفيهم ويصلح شأنهم، وقال في ذلك: ما أنصفناه إذ أخذنا منه الجزية شابًا، ثم نخذله عند الهرم!


حرية التدين
ويحمي الإسلام فيما يحميه من حقوق أهل الذمة حق الحرية.
وأول هذه الحريات: حرية الاعتقاد والتعبد، فلكل ذي دين دينه ومذهبه، لا يُجبر على تركه إلى غيره، ولا يُضغط عليه ليتحول منه إلى الإسلام.
وأساس هذا الحق قوله تعالى: (لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي)، (البقرة: 256) وقوله سبحانه: (أفأنت تُكرِه الناس حتى يكونوا مؤمنين)؟ (يونس: 99).
قال ابن كثير في تفسير الآية الأولى: أي لا تُكرِهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام، فإنه بَيِّن واضح، جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه.
وسبب نزول الآية كما ذكر المفسرون يبين جانبًا من إعجاز هذا الدين، فقد رووا عن ابن عباس قال: كانت المرأة تكون مقلاة -قليلة النسل- فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تُهَوِّدَه (كان يفعل ذلك نساء الأنصار في الجاهلية) فلما أُجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقال آباؤهم: لا ندع أبناءنا (يعنون: لا ندعهم يعتنقون اليهودية) فأنزل الله عز وجل هذه الآية: (لا إكراه في الدين). (نسبه ابن كثير إلى ابن جرير، قال: "قد رواه أبو داود والنسائي وابن أبي حاتم وابن حيان في صحيحه وهكذا ذكر مجاهد وسعيد بن جبير والشعبي والحسن البصري وغيرهم أنها نزلت في ذلك . . " تفسير ابن كثير ج ـ 1 ص 310)
فرغم أن محاولات الإكراه كانت من آباء يريدون حماية أبنائهم من التبعية لأعدائهم المحاربين الذين يخالفونهم في دينهم وقوميتهم، ورغم الظروف الخاصة التي دخل بها الأبناء دين اليهودية وهم صغار، ورغم ما كان يسود العالم كله حينذاك من موجات التعب والاضطهاد للمخالفين في المذهب، فضلاً عن الدين، كما كان في مذهب الدولة الرومانية التي خيَّرت رعاياها حينًا بين التنصر والقتل، فلما تبنت المذهب "الملكاني" أقامت المذابح لكل مَن لا يدين به من المسيحيين من اليعاقبة وغيرهم.
رغم كل هذا، رفض القرآن الإكراه، بل مَن هداه الله وشرح صدره ونوَّر بصيرته دخل فيه على بيِّنة، ومَن أعمى الله قلبه، وختم على سمعه وبصره، فإنه لا يفيده الدخول في الدين مُكرَهًا مقسورًا ـ كما قال ابن كثيرـ . فالإيمان عند المسلمين ليس مجرد كلمة تُلفظ باللسان أو طقوس تُؤدَّى بالأبدان، بل أساسه إقرار القلب وإذعانه وتسليمه.
ولهذا لم يعرف التاريخ شعبًا مسلمًا حاول إجبار أهل الذمة على الإسلام، كما أقر بذلك المؤرخون الغربيون أنفسهم.
وكذلك صان الإسلام لغير المسلمين معابدهم ورعى حرمة شعائرهم، بل جعل القرآن من أسباب الإذن في القتال حماية حرية العبادة، وذلك في قوله تعالى: (أُذِن للذين يقاتلون بأنهم ظُلموا، وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرًا). (الحج: 39 - 40).
وقد رأينا كيف اشتمل عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل نجران، أن لهم جوار الله وذمة رسوله على أموالهم وملَّتهم وبِيَعهم.
وفي عهد عمر بن الخطاب إلى أهل إيلياء (القدس) نص على حُريتهم الدينية، وحرمة معابدهم وشعائرهم: "هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان: أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وسائر ملَّتها، لا تُسكن كنائسهم، ولا تُهدم ولا ينتقص منها، ولا من حيزها، ولا من صليبها، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يُضار أحد منهم. ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود . . " كما رواه الطبري . (تاريخ الطبري ط . دار المعارف بمصر ج ـ 3 ص 609).
وفي عهد خالد بن الوليد لأهل عانات: "ولهم أن يضربوا نواقيسهم في أي ساعة شاءوا من ليل أو نهار، إلا في أوقات الصلاة، وأن يخرجوا الصلبان في أيام عيدهم" .(الخراج لأبي يوسف ص 146).



وصايا نبوية بأقباط مصر خاصة
وأما أقباط مصر فلهم شأن خاص ومنزلة متميزة، فقد أوصى بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصية خاصة، يعيها عقل كل مسلم ويضعها في السويداء من قلبه.
فقد روت أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوصى عند وفاته فقال: "الله الله في قبط مصر، فإنكم ستظهرون عليهم، ويكونون لكم عدة وأعوانًا في سبيل الله" (أورده الهيثمي في مجمع الزوائد ج10 ص62، وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح(.
وفي حديث آخر عن أبي عبد الرحمن الحبلي ـ عبد الله بن يزيد ـ، وعمرو بن حريث، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "...فاستوصوا بهم خيرًا، فإنهم قوة لكم، وبلاغ إلى عدوكم بإذن الله" يعني قبط مصر (رواه ابن حبان في صحيحه كما في الموارد (2315) وقال الهيثمي ج10 ص64: رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح(.
وقد صدَّقَ الواقع التاريخي ما نبأ به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فقد رحب الأقباط بالمسلمين الفاتحين، وفتحوا لهم صدورهم، رغم أن الروم الذين كانوا يحكمونهم كانوا نصارى مثلهم، ودخل الأقباط في دين الله أفواجًا، حتى إن بعض ولاة بني أمية فرض الجزية على مَن أسلم منهم، لكثرة من اعتنق الإسلام.
مصر بوابة الإسلام إلى إفريقيا كلها، وغدا أهلها عُدَّة وأعوانًا في سبيل الله.
وعن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنكم ستفتحون أرضًا يُذكر فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيرًا، فإن لهم ذمة ورحمًا".
وفي رواية: "إنكم ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط (القيراط: جزء من أجزاء الدرهم والدينار وغيرهما، وكان أهل مصر يكثرون من استعماله والتكلم به، بل هم لا يزالون كذلك بالنسبة للمساحة والصاغة وغيرها، وكل شيء قابل لأن يقسم إلى 24 قيراطًا)، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحمًا"، أو قال: "ذمة وصهرًا" (الحديث بروايتيه في صحيح مسلم رقم (2543)، باب وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - بأهل مصر، وفي مسند أحمد ج5 ص174).
قال العلماء: الرحم التي لهم: كون هاجر أم إسماعيل عليه السلام منهم، والصهر: كون مارية أم إبراهيم ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم. (ذكر ذلك النووي في رياض الصالحين: حديث (334) ط . المكتب الإسلامي(.
ولا غرو أن ذكر الإمام النووي هذا الحديث في كتابه "رياض الصالحين" في باب: "بر الوالدين وصلة الأرحام" إشارة إلى هذه الرحم التي أمر الله ورسوله بها أن توصل بين المسلمين وبين أهل مصر، حتى قبل أن يسلموا.
وعن كعب بن مالك الأنصاري قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا فُتِحت مصر فاستوصوا بالقبط خيرًا، فإن لهم دماً ورحمًا" . وفي رواية: "إن لهم ذمة ورحمًا" يعني أن أم إسماعيل منهم .(أورده الهيثمي ج ـ 10 ص 62، وقال: رواه الطبراني بإسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح، كما رواه الحاكم بالرواية الثانية وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي ج ـ 2 ص 753، وعند الزهري: "الرحم" بأن أم إسماعيل منهم(.
والرسول يجعل للقبط هنا من الحقوق أكثر مما لغيرهم، فلهم الذمة أي عهد الله ورسوله وعهد جماعة المسلمين وهو عهد جدير أن يُرعَى ويُصان . ولهم رحم ودم وقرابة ليست لغيرهم، فقد كانت هاجر أم إسماعيل أبي العرب المستعربة منهم بالإضافة إلى مارية القبطية التي أنجب منها عليه الصلاة والسلام ابنه إبراهيم.


سقطت درع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فوجدها عند رجل نصراني فاختصما إلى القاضي شريح . قال علي: الدرع درعي، ولم أبع ولم أهب .فسأل القاضي ذلك النصراني في ما يقول أمير المؤمنين، فقال النصراني: ما الدرع إلا درعي، وما أمير المؤمنين عندي بكاذب.
فالتفت شريح إلى علي يسأله:يا أمير المؤمنين، هل لك من بيِّنة؟ فضحك علي وقال: أصاب شريح، ما لي بيِّنة . وقضى شريح للنصراني بالدرع، لأنه صاحب اليد عليها، ولم تقم بينة عليّ بخلاف ذلك . فأخذها هذا الرجل ومضى، ولم يمش خطوات، حتى عاد يقول: أما إني أشهد أن هذه أحكام أنبياء! أمير المؤمنين يدينني إلى قاضيه فيقضي لي عليه! أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، الدرع درعك يا أمير المؤمنين، اتبعت الجيش وأنت منطلق من صفين، فخرجت من بعيرك الأورق.
فقال علي رضي الله عنه: أما إذ أسلمت فهي لك! (البداية والنهاية لابن كثير ج ـ 8 ص 4 – 5).
وهي واقعة تغني عن كل تعليق.


قال سبحانه وتعالى في كتابهِ الكريم :
) لتجدن أشد الناسِ عداوةً للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودةً للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون)